Sunday 28 September 2014

الفصل الأول - الهروب إلى الأمام ١-٣

وسط المناقشة التي عٍُقِدت في مكتبة الاسكندرية منتصف ديسمبر ٢٠١٣ تِلْو عرض نسخة العمل المبدئية من فيلم «صاجات»، تسأل مُشاهدة شاهدت أفلامي السابقة عن كيف ومتى ستتجاوز تلك الأفلام كونها أفلامًا ذاتية؟

بعد مغامرات ومقامرات وإفراط وتفريط خرجتُ من سنوات عشرينياتي خالي الوفاض، ماديًا ومهنيًا ودراسيًا واجتماعيًا. أعيش على أجور متفاوتة من أشغال مؤقتة وإعانات أسرية. كان المزاج يتعَكّر تدريجيًا منذ العام الذي تلا عرض فيلمي الروائي القصير الأول «ربما يكون مغلقًا» في نوڤمبر ٢٠٠٦. حصيلة الفيلم بعد شهور من التعب والعناد والصدام كانت أُذُن امتلأت بمجموعة متساوية الأطراف من كلمة “مبروك” وتنويعاتها، وعين تبلّدت أمام ابتسامات هادئة لم أتمكّن أبدًا تمييز تلقائيتها من اعتيادها. ثم خَفُت صوت الفيلم بين الأصدقاء والمعارف الجدد وفي المهرجانات والملتقيات السينمائية المحلية، لأبدأ ٦ شهور متواصلة من تدخين الحشيش والعزلة. ثم إقلاع مُفاجئ، وفوضى وارتباك لعدة سنوات لاحقة. التقشُّف والاستغناء يتزايدان، ودقّات الساعة كالطبول. غير أنه بعد سنوات ثلاث من «ربما يكون مغلقًا» أدركت أن الحصيلة بها أيضًا: عمل سابق فضّ بكارة المقدِّمات الكلامية، وتمكنت عن طريقه من تنفيذ فيلمي الروائي القصير الثاني «أشياء مُشابهة» في سبتمبر ٢٠٠٩.

كان إنتاج الفيلم الأول تعاونيًا بين أصدقاء، إما بمال أو بمعدات أو بمجهود. ميزانيته الورقية بلغت ١٠ آلاف جنيه. الفيلم الثاني كان من إنتاج مركز الفنون بمكتبة الاسكندرية في أول دورات مشروعه “بلازا”. بلغت ميزانيته الورقية ٨ آلاف جنيه (ساهمت فيها المكتبة فعليًا بخمسة).

في الفيلمين، الأول والثاني، كنت منحازًا لصالح الأسلوب والأجواء، واستكشاف الصنعة. فطغت التيمة على الحبكة، ثم طغت الحبكة على الشخصيات. شخصيات الفيلمين كتمت تناقضاتها داخلها باستسلام. لم أهتم بحرفية السيناريو المكتوب قدر اهتمامي بالكاميرا والإضاءة والديكور. لم أهتم بتدريبات الممثلين قبل التصوير قدر اهتمامي بإدارة الإنتاج وتوفير الحلول التنفيدية.
لكني أحب فيلم «أشياء مُشابهة». أسفر فارق الثلاث سنوات بينه وبين الفيلم الأول عن نتيجة مُرضيَة، دون أدنى تراكم لخبرة عملية في مواقع تصوير أخرى. أتذكّر أربعة تعليقات بعد العرض الأول، لا تتضمن كلمة “مبروك” ولا تصاحبها ابتسامة، أكدت ما كنت قد خططت له في هذا الفيلم. بعرضه تخلصت من أندريه تاركوفيسكي وميكيل-أنجلو أنتونيوني. وانتهت شكوك “الصنعة”، وعرفت ٤ أشياء عن نفسي: 
١. أني سأظل أسرد من داخل غرف الأحلام (وليس على حدود تماسها مع ساحات الواقع).
٢. أني أحب تحريك الكاميرا بين نقطتين أثناء اللقطة الواحدة.
٣. أني سأحْلِبُ مواقع التصوير (طالما تعذّر بناء ديكورات).
٤. أني سأستخدم المرايا دومًا ضمن اكسسوارات الأفلام القادمة.

خلال شهور التحضير لـ «أشياء مُشابهة» اكتشفت ولعي بالأماكن وتطويعها. التلاعب داخل ثنايا العلاقة المتبادلة بين الأشخاص والأماكن التي يعيشون بها وتعيش بهم. كيف تؤثِّر مواصفات وعناصر الأماكن في شكل ومضمون أحلام ساكنيها. الفيلم مكوّن من ٨ لقطات رُسمت قبل التصوير، وكَشَفتْ ما يقرب من ٧٠٪ من مساحة بلازا مكتبة الإسكندرية، التي اشترط المشروع استخدامها لتصوير الفيلم (لعبة مُحفّزة). تم تنفيذ اللقطات كما خُطِّطَ لها بالضبط. هو أقصر الأفلام التي نفذتها حتى الآن (٦ دقائق). كنت المخرج ومدير الإنتاج والمونتير وميكسير الصوت ومصحّح الألوان، كما سجّلت بصوتي جمل حوار الشخصية الرئيسية. حتى ذلك العام في موجة تطوُّر صناعة الأفلام في الاسكندرية، كان المخرج هو المنتج، فكنتُ المنتج أيضًا. والمنتج هنا لا تعني المموّل. بل من يدير أوجه الإنتاج، ليوفّر مساحة أكبر للمخرج يركّر من داخلها على العملية الفنية فقط.

في ديسمبر ٢٠١٠ انتهيت من تصوير فيلمي القصير الثالث «ابن البلد – الرحلة». وأنجزت نسخته النهائية في إبريل ٢٠١٢. عامان ونصف تقريبًا، غير أيام التصوير التي كانت موزّعة على امتداد شهور عام ٢٠١٠. كان اندلاع الثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١ وتداعياتها عذرًا مناسبًا بيني وبين المنتج، وبين المنتج والمموّل. بهذا الفيلم أدركت بشكل أكيد أني شخص بطئ بطبعه، أصابه الإنهاك عند “قَلْبة عدّاد” ثلاثينياته. الفيلم روائي-تسجيلي، اقتربت فيه من الحبكة، بينما ترنّح الأسلوب. ورغم ضعفه تقنيًا وفنيًا إلا أنه انتهى متماسكًا. فمن بين ٢٠ ساعة تصوير خرجتْ نسخة أولية مدتها ٤٥ دقيقة، ثم خرجتْ نسخة نهائية بعد عام مدتها ٢٢ دقيقة. هو الفيلم الوحيد الذي تقاضيت فيه أجرًا، كمخرج ومصوّر ومونتير وميكسير صوت. بلغت ميزانيته الورقية (والفعلية أيضًا هذه المرة) ٢٥ ألف جنيه. لا بأس من 'عثرة بين نجمتين'.

الثلاثة أفلام شارك في كتابتها أشخاص ذوو خلفيات أدبية، بين شعر ونثر ومسرح، على الترتيب. لم يكن التعاون واعيًا أو مقصودًا لذاته. لكن حالته النيئة أثمرت بالتأكيد حكيًا مُجردًا طَبَعَ هذه الأفلام. ربما لم يتعمّد أيهم ذلك، وربما لم يُرده. تختلف السينما، نظرًا لتكلفتها العالية ووزمنها المحدَّد نسبيًا، عن باقي وسائل التعبير الفنية. لحظة انتهاء التصوير وترك طاقم العمل لموقع التنفيذ تصير فرص التعديل محدودة. إما إصلاح ما حصلت عليه، وهذا مستحيل أو مُكلِّف أو خاضع للتفاوض، وإما تطويره في اتجاهٍ جديد. يظل التعديل تغييرًا أكيدًا عما تم الخطيط له. ويظل السؤال الأشهر بين “صنايعية” الأفلام هو: حققتُ نسبة كم بالمائة (٪) مما أردتُه؟ بطبيعة الحال تلك متعة. غير أن التعلُّم والتجريب العملي في السينما يعني المجازفة بالمال والمجهود. لذا يجب التسليم به والاستمتاع.

لم أسع لمشاركة فيلم «أشياء مُشابهة» في المهرجانات، وأيضًا لم أسع لعرض فيلم «ابن البلد - الرحلة». كان الإجهاد والاستنزاف قد بلغا مداهما وتأكّدا خلال تلك السنوات. اكتفيت برضاي عن الأول، وأجري من الثاني. وبدأتُ استراحة المحارب للنقاهة استعدادًا لتسديد فواتير المغامرات والمقامرات والإفراط والتفريط، أو استنئنافها. قمتُ برحلة تنقّلتُ فيها بين الاسكندرية – دمياط – بورسعيد – القاهرة خلال أيام إجازة الأضحى، أكتوبر ٢٠١٢. جغرافيًا، كانت جولة على حدود دلتا نهر النيل بدأتْ مشروع فيلم تسجيلي قيد التطوير. وفي فبراير ٢٠١٣ صوّرت فيلمًا روائيًا مدته ٤ دقائق، لم أتمّم شريط صوته بعد، ولم أسمّه أيضًا. طبّقتُ فيه أسلوب شخصي تبنيتُه منذ «أشياء مُشابهة» لتفادي المعوقات الإنتاجية. أسلوب: “تصوير اليوم الواحد”.

تخلل ما سبق الانخراط في ثورة شعبية. المشي وسط جموع بشرية متنوعة الحالة الإجتماعية والإقتصادية. خلال ١٨ يوم وتظاهرات أسبوعية واعتصامين كبيرين بعد ذلك، تزايد معدل مقابلة الغرباء والتشارك معهم في اكتشاف الاسكندرية. اعتمدت مدينتي على المسيرات في إعلان احتجاجاتها. نجوب الشوارع والمناطق شرقًا وغربًا، فتتجدّد الدماء باستمرار، داخلنا وخارجنا. بتراكم الخبرة أميّز الشرطي السرِّي والمخبر الأمني من غيرهما. السذّج من الخبثاء. ما لا يريده الكبار وما لا يعرفه الشباب. الغضب الكامن داخل نفوس الجيل المولود في بداية تسعينيات القرن العشرين. التردد في اتخاذ القرارات. ارتجال الحلول. التعريص والتبرير. النفعية والتفاوض. البرد الفائت في العظام، وحرارة الشمس النافخة في السخط. اصطفاف الجموع بنظام لأداء الصلاة. الهتافات المتداخلة في شريط الصوت. الزي الموَحّد باختلافاته. المرأة. الملصقات الرديئة. الألوان الرائجة لكتابة الرغبات. المفردات اللغوية الأسهل والأقرب والأوسع استخدامًا في الشعارات المُمَوْسقة. التأهُّب والاسترخاء. خسَّة الكذب الساكت. الخرافات والخرافات المضادة. عرفت ذات مظاهرة أن رِخَص ثمن العلاج بالقرآن (ومجانيته إذا ما توّفرت الخبرة في أقرباء) يفسّر ميل الفقراء إليه في للتداوي من مُصابهم، بدلًا من العلاج بالسحر، ومن استخدام تركيبات الطب الحديث.

كل ما سبق سرده من 'مَعْجَنة' استمر ٧ سنوات عُجاب. وكان طريقًا تضيق نهايته باتجاه تنفيذ فيلم جديد وحدوتة 'خشنة' تتفاعل بداخلها الشخصيات. لذا، فبعد أن قاطعت عروض وبرامج تمويل مكتبة الاسكندرية منذ ٢٠١١ آملًا في التخلص من إدارتها العجوز ضمن عملية تطهير المؤسسات، قررت التحالف معها بعد صعود الإخوان المسلمين حُكّامًا لمصر. قررتُ التقدم مرة أخرى بسيناريو جديد في الدورة الخامسة من مشروع “بلازا”. ترددتُ كثيرًا، وحَسَم التردد لصالح المشاركة استقراري علي التعاون مع محمد درغام ومحمد الجابري لكتابة السيناريو.

No comments: