Sunday 28 September 2014

الفصل الثاني - الانتظار سباحة في الداخل ١-٦

هكذا أفلتَ سيناريو فيلم «صاجات» من دفنه في درج المكتب. وصار الانغماس السابق في كتابته خطوةً ذات جدوى. ها هي أرض صلبة يمكن أن أنقل عليها قدمي الأخرى. أعتبر تخزين سيناريو في الدرج، في حال لم يجد طريقه كي يتحرك كأشعة ضوء فوق سطح أبيض، من أكثر تبعات رفض التمويل إثارة للإحباط. العيش مع سيناريو منبوذ في نفس المكان لن يتأتى منه نفعًا، لا بالنسبة للسيناريو ولا بالنسبة لكاتبه. شوكةً مُوجعة في الحلق. أما الاعتياد على هذا التعايش فهو استسلام صريح يغرسُ الشوكة منطقة أعمق. هذا من الأسباب الفرعية التي لاتدفعني لكتابة سيناريوهات. فرغم أن الكتابة هي الخطوة الأولى في المسار الطبيعي لتكوين فيلم يصلح للعرض، إلا أنه من خلال تتبُّع مدارس الإنتاج السينمائي حول العالم قديمًا وحديثًا توقفتُ عند نموذج هوليوود بالتحديد. ذلك النموذج الذي ابتكر لنا شخصية المنتج (Producer) بمهامه. ذلك الفرد التي يستأجر الجميع كي يخلقوا فيلمًا. الفرد الذي يتحمل عبء البناء. أن أصلَ إلى فيلم بعد أن تكون شركة الإنتاج قد أتمّت خطوته الأولى واشترت السيناريو ثم وجدَتْني الأصلح لتنفيذه، أو العمل عليه، كما هو مشروع، هو النموذج المناسب لي في صناعة الأفلام. ما يلي ذلك هو محض لعبة تفاوُض ومواجهة بين أطراف، وهي العملية الأمتع من التلويح بسيف في هوائك الخاص. التعاقد طويل الأمد به من الأمان ما يغريني كمخرج. أما ما حدث قبلًا (وسيستمر في الحدوث) هو العدو وحيدًا في العراء بحثًا عن مظلة تمويل. حالة ما قبل وصول المال تماثل اشتهاء سمك لا زال تحت الماء. أخبرني ذلك الأديب الذي جالسته قبل أعوام بخصوص تحويل روايته فيلمًا. تتداخل مدارس وطرق إنتاج الأفلام، وتتنوّع احتمالاتها المفتوحة داخل متلازمة أساسية: قصة – مال - طاقم عمل، على الترتيب.
عند هذه النقطة، وبالعودة إلى نموذج إنتاجات هوليوود، كانت الأزمة التي مرتْ بها في بداية الخمسينيات من القرن العشرين سببًا للجوء شركاتها الكبرى وقتذاك في تصوير بعض أفلامها إلى السفر نحو دول شرق أوروبا، لرخص الأجور والمصروفات ولتجديد دماء شكل مواقع التصوير، وأيضًا للهرب من وطأة الضرائب المفروضة على أرباحها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن احتجاجات النقابيين الأمريكيين في تلك الفترة. مخرجو السينما الشباب في تلك الدول الاشتراكية استفادوا من تواجد معدات هوليوود الحديثة. صوَّروا بها أفلامًا تخصهم في أيام توقف التصوير الأساسي. تدربوا عليها بشكل عملي. منهم من صنع بها أفلام تخرجه من معاهد الدراسة. استخدموا الخام والكاميرات ومعدات الإضاءة ليسجِّلوا بها قصصهم التجريبية التلقائية العابثة. تلك قصة أتذكرها دومًا لضخ الحماس وطرد اليأس. فكل الاحتمالات فعلًا مفتوحة. في ٢٠٠٩ كان لدي سيناريو فيلم روائي قصير اسمه «عنف وفوضى». كتبته قبل سيناريو «أشياء مُشابهة». سيناريو مُُكتمل وخطة تنفيذه الأساسية واضحة. بطلته الأساسية أوروبية أو أمريكية، طبقًا لعلاقة الشخصيتين الأساسيتين داخل القصة. رسمتُ لقطات الفيلم واخترتُ بعد بحث شاق مكان التصوير المناسب، وعثرتُ بعد عناء على فتاة بلچيكية وافقت على أداء الدور بكل ما فيه من جرأة في تصوير مشهد الجنس بتعقيده. كنتُ أعدُّ ذلك كله في نفس توقيت الإعداد لفيلم المكتبة. وكنتُ أهدف تصوير يوم من يومي تصوير «عنف وفوضى» بعد الانتهاء من تصوير لقطات «أشياء مُشابهة». وبكلمة 'بعد' أعني بعده بالفعل، وبقسوة. أي أن تتحرك المعدات التي استأجرتها من مكانها في ساحة بلازا المكتبة إلى الشقة التي سنصوِّر بها «عنف وفوضى». وصورت منه لقطتين بالفعل. وبطاقم عمل مختلف كليةً (عدا الفنيين والعمال الذين انتقلوا معنا دون أن يفهموا الرابط بين ما صورناه نهارًا وما نحن مقدمون على تصويره الآن في مكان مختلف وبممثلين مختلفين). بعد هاتين اللقطتين أوقفت التصوير فجأة وشكرتُ الجميع بابتسامة جادة. دفعتُ أجور العمال والمعدات (قيمة يومِ واحد كما اتفقنا). ثم رافقتُ الفتاة البلچيكية حيث غرفة فندقها، وعدت لأنام في بيتي دون مراجعة لأي شئ. هكذا لم تنجح التجربة بعد ارهاق يوم تصوير خارجي بالكامل، محسوبة تفاصيله بدقة. لكني لا زلت أحتفظ باللقطتين التي صورناهما من الفيلم الذي اتخذ هو نفسه منحنًا مختلفًا بعدها بأعوام.
هكذا يظل الحصول على تمويل لتنفيذ أي سيناريو هو صخرة السينمائي التي يحملها فوق ظهره. ولأني أطبع جميع مسودات السيناريو بتطوراتها لأحتفظ بها في كل فيلم، وصولًا إلى النسخة النهائية منه، كان فشل الحصول على تمويل مشروع 'بلازا' ٢٠١٣ يعني تحنيط السيناريو في أحد الأدراج، والجلوس على تل الخراب عامًا آخر وسط مسوَّدات لن تهتم.
بعد إعلان النتيجة بأسبوع، حدَّدَ أحمد نبيل موعدًا معي لمقابلة عصام زكريا ومناقشة الخطوط العامة لطريقة وأسلوب تنفيذ الفيلم. بعدها بأسبوع آخر التقيتُ أحمد نبيل نفسه في موعد جديد لمناقشة بنود التعاقد وتوقيت صرف دفعات التمويل والجدول الزمني للإنتهاء من الفيلم. في ٢٢ إبريل ٢٠١٣ وقّعتُ ورقة التعاقد، الذي تفيد بنوده، بوضوح، أن مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية كطرف أول هو مموّل الفيلم الذي يجب الاستئذان منه والحصول على موافقته قبل أي عرض عام للفيلم بعد انتهائه. وأنه على مخرج الفيلم كطرف ثاني أن يلتزم بالتاريخ المقرر لعرض فيلمه في الحدث السنوي الثابت المحدد سلفًا لعروض مشروع 'بلازا'. بين توقيع العقد وعرض الفيلم، يجب أن يُحسن المخرج اتخاذ قراراته الإنتاجية (وذلك لم يكن منصوصًا عليه في التعاقد). بطبيعة العادة في فيلمين سابقين، لم يكن مطروحًا في خطتي أن أستقدم منتجًا يدير إنتاج الفيلم وأتفرُّغ أنا لإخراجه. لم يحدث ذلك لي سوى في فيلم وحيد سابق هو «الرحلة – ابن البلد». كان منتجه هو المسئول الأول عن التنفيذ، ابتداءًا باستقدامه المخرج وحتى تسليمه نسخة الفيلم النهائية إلى الجهة المُموِّلة (نموذج الإنتاج المناسب لي). ولحسن الحظ كان شخص المنتج حينها شفافًا وواضحًا في مهمته وتعاملاته. لذا كانت الملحوظة الأهم التي ركز عليها كلٍّ من عصام زكريا وأحمد نبيل بخصوص تنفيذ «صاجات» هي أن تنفيذ المكتوب بسبعة عشر ألف جنيه فقط غير ممكن بأي حال من الأحوال. لم أكن قد أفقتُ وقتها من مرحلة استرخاء الجفون التي دلفتُ إليها بسقوط لذيذ بعد فترة الفنجلة الطويلة والمتوترة التي سبقت إعلان النتيجة. أرخيتُ جفوني بعد إعلان نتيجة مشروع 'بلازا'، محتفظًا بنفسي في تلك المنطقة بين الوعي واللا وعي، كي أتمكّن من الانتهاء من فيلم «صاجات» داخلي أولًا. لذا خلال ٣ أسابيع، بين إعلان النتيجة وتوقيع العقد، أمضيتُ وقتي في التقاط الأنفاس. فمن ضمن خبرات ممارسة كرة القدم يأتي أيضًا تعلُّم قيمة توزيع المجهود على امتداد زمن المباراة كعنصر مهم. تنفيذ الأفلام مُجهِد، نفسيًا وذهنيًا وبدنيًا. وأنا مُنهك بعد ٧ سنوات استنزاف لاهيًا لا أعبأ.
بعد توقيع العقد تمنّى لي أحمد نبيل التوفيق فيما هو آت، وناقشتُه فيما يخصّ أفراد طاقم العمل المتاحين في اسكندرية لتصوير الفيلم. اقترح علّي وأعطاني رقم هاتف أحمد زيان مديرًا لإنتاج الفيلم (Line Producer)، لقدرته على استخراج تصاريح بالتصوير من الجهات الحكومية المُختصّة، خاصةً بعد نجاحه بشكل مميز، كما أخبرني نبيل، في استخراج تصريح رسمي بالتصوير في منطقة عسكرية لفيلم سابق من أفلام مشروع 'بلازا' العام الماضي. تظل مهمة مدير الإنتاج هي المهمة المفصلية لتمام رؤية المخرج في فيلمه. هو عمود الخيمة الذي ستلجأ إليه كل الأطراف لحل مشكلاتها وإيجاد البدائل والحلول الصغيرة طوال رحلة تنفيذ الفيلم. هو رجل الساحة، مارشال مواقع التصوير. يجب أن تشعر بوجوده وتراه في مجالك البصري باستمرار، دون أن يُسمعَك صوته. فقط يسمعكَ هو ثم يفكّر ويدبّر وينفّذ. قمت بإدارة إنتاج فيلمي «أشياء مُشابهة» في ٢٠٠٩، وقمت بذلك أيضًا في فيلم لمخرج آخر صديق في ٢٠١٠. المهام المتنوعة في منطقة إنتاج الأفلام هي مهام حربية في تقنياتها. ويمكن تمييزها كرتبٍ عسكرية.
طفلًا، وعلى خشبة مسرح مدرستي الابتدائي، أدّيتُ دور وزير بإحدى الممالك الخيالية. وزير خبيث وشرير يُسيئ نصح الملك بهدف الحصول على مكاسب شخصية تخصه، ربما تولِّي حكم المملكة نفسها. لا أتذكر. كانت المملكة تنهار ورعايا الملك غاضبون والمشاكل تتصاعد. لكني كوزير، عند استجارة الملك بي في نهاية الفصلين الأولين، كنتُ ألفُّ ذراعي حول رقبته وأصحبه خارج خشبة المسرح قائلًا: “انتظر. عندي خطة.” تلك جملتي الأثيرة منذ حينها. وأتذكر نصها جيدًا. “انتظر. عندي خطة.” ربما وسمتْ تلك الجملة حياتي حتى الآن. كمنتج وكمخرج لفيلم «صاجات» قسّمتُ مهام تنفيذ الفيلم ثلاثًا:
  • أمام الكاميرا: 
    مواقع التصوير. 
    الديكورات والملابس والاكسسوارات. 
    ملامح الممثلين وأسلوب أدائهم. 
    حركة الكاميرا. 
    مواصفات الصورة.


  • خلف الكاميرا: 
    أجور طاقم الفيلم. 
    المعدات المناسبة. 
    توثيق تجربة إعداد الفيلم وتصويره في فيلم تسجيلي.

الفصل الأول - الهروب إلى الأمام ٣-٣

مشروع “بلازا”، كغيره من المشروعات التمويلية الداعمة للفنون والتي تديرها المؤسسات التنموية والثقافية غير الربحية، يحدِّد مُسبقًا سقف التمويل المتاح، قبل استقبال السيناريوهات. لكن هذه المؤسسات، وعبر تجربة، بدأتْ تسمح بمشاركات إنتاجية مع جهات أخرى في حال احتاج العمل ذلك. جرّبت في دورة ٢٠٠٩ أن أنفّذ فيلم «أشياء مُشابهة» بخمسة آلاف جنيه، مضمونةً فور اختيار السيناريو من المكتبة. وضعتُ حينها قيمة المبلغ المُتاح في اعتباري أثناء كتابة السيناريو، فكتبت مع زميلتي وقتها قصة بسيطة. واكتفيتُ، مثلًا، في عناوين نهاية الفيلم بكتابة 'فكرة' فلان، لا 'سيناريو' فلان. جاء زمن الفيلم قصيرًا أيضًا. كان الأمر مُخططًا له منذ بدايته أن يكون 'على قد الفلوس'. لم يتعدّ المكتوب وقتها حوارًا بين شاب وفتاة يدور في ساحة البلازا. منذ تلك الدورة تضاعفتْ قيمة التمويل المتاح لتنفيذ الأفلام ثلاث مرات ونصف على مدار ٤ دورات تالية، لتصبح ١٧ ألف جنيه هذا العام. هذه المرة كنت أحتاج ألا أعقِل الخيال لاعتبارات إنتاجية. فتركناه جامحًا. لم أكترث وقت الكتابة بتكاليف تنفيذ التفاصيل المكتوبة في نسخة السيناريو المُقدمة. واستمر الحال كذلك حتى إعلان النتيجة. كان «صاجات»، ولا زال، هروبًا لحوحًا إلى الأمام. فنيًا وإنتاجيًا. بلا رقابة من أي نوع. لم نضع رقيبًا أخلاقيًا أثناء الكتابة. فالنسخة النهائية المرسلة من سيناريو «صاجات»، إضافةً إلى التفاصيل الغرائبية وغموض العلاقات داخل الحبكة، جاءت مُحكمة دراميًا. لذا كان الخروج عن المُعتاد ضرورة لا رفاهية للإحكام بين الثلاث شخصيات بمواصفاتهم المكتوبة. ذلك كان مصدر الإشباع الأساسي بعد الانتهاء من الكتابة (والدافع الرئيسي لتنفيذ الفيلم). الإحكام الدرامي للشخصيات المنتقاة فرضت علينا الإخلاص لسينما الفيلم، لا الامتثال للمُعتاد رقابيًا. لم يجد ثلاثتنا صعوبةً أثناء الكتابة في خلق عالم غريب. إنما الجهد كله انصرف لسد ثغرات الدراما والحفاظ على تصاعدها بتماسك بين ثلاث شخصيات فقط في ليلة اخترناها لهم معًا. بالانتهاء من كتابته تمت بنجاح الخطوة الأولى من تجديد الدماء.
كان الإعلان عن وجود الناقد السينمائي عصام زكريا، الذي أتابع مقالاته منذ سنوات في الدوريات الخاصة (توقفت كلها الآن)، كمحكّم في الدورة الخامسة من مشروع “بلازا”، مصدرًا للاطمئنان عند اتخاذ قرار كتابة سيناريو والتقدم به. فعلى خلاف الدورات السابقة التي كان المحكمون فيها صنّاع أفلام، جاء هذه الدورة عصام زكريا، المُتخصص في النقد السينمائي، ليتولى الأمر. ما يعني التدقيق في الحرفة بغض النظر عن الذائقة. تحليل العمل من داخله. عصام زكريا مُتابع نَشِط للتجارب السينمائية منخفضة التكلفة داخل وخارج مصر. التجارب الشاردة عن الإعلام.
الكتابات النقدية المصرية التي التهمتها طوال سنوات عشرينياتي النهمة سيطر عليها مثقفو الدولة النخبويون، بأحاديثهم المغلّفة عن السينما الجادة وأفلام المهمشين. كانت، على سبيل المثال، تحتقر كوميديا الفارص وأفلام الدرجة الثانية المصرية عبر تاريخها. إلى جانب معايير أخرى رسخَتْ، وسمّمت تنوُّع وتطوُّر المناخ الثقافي والفني. ومن دون شك، رؤية السينما التلقينية من صنيعة مثقفي الدولة. أثّر ذلك عليّ فترة من الزمن. لكن عقلي النقدي خلّصني من عدة أيديولجيات مبكرًا، سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا. خلخلتْ ثورة الإتصالات وتجلُّط الدماء في شرايين الدولة سطوة الإعلام الحكومي والتعليم الرسمي والخطاب الثقافي السائد. خلال أشرس فترات الفن الموجّه، في العالم كله، لم ينصلح حال البشرية. لكننا حتى الآن، هنا، وفي ٢٠١٤، لا زلنا نستخدم نفس الخطاب الكاذب المدلّس حول دور الفن في إصلاح المجتمعات. تسلل هذا المفهوم إلى الجميع عبر عقود. ولم يعد استخدامًا قاصرًا على مؤسسات الدولة. بل امتد إلى المؤسسات المستقلة عنها، التي تموّل الفنون كجزء من نشاطها 'التوعوي' المُناهِض للسلطة ولعَوَار الثقافة المحلية. لا تزال الفنون تسير بقدمين ثقيلتين. هنا. وفي ٢٠١٤. جاء التفكير في مشروع فيلم «صاجات» غضبًا من ثِقَل ذلك الستار الحديدي الذي 'يُكلبش' عقول الفنانين والممولين والمتلقين، على السواء، ودون ترتيب.
على أية حال، ومن زاوية أخرى، أجد باستمرار صعوبةً في تعريف وتوصيف ما أريده. لا أعرف ما أبغيه عند البدء في كتابة سيناريو. لا شئ مهم على هذه الأرض. تنفيذ الأفلام نفسه، كنت قد وصلت إلى يقين قبل عامين أنه غير مهم بالنسبة لي. هو فقط لعبة أنيقة وممتعة للغاية. لا يوجد شئ إنساني يشغلني. غريزة الاستمرار في الحياة هي السبب الوحيد الذي يتطلب صناعة الأفلام. ربما لتثبيت الزمن عند شعور مبهم، دون استكشافه. حياد يتجاوز في صعوبته الانحياز. تشغلني الأجواء المحيطة بساعتين تسهرهما أسرة تقليدية من الطبقة المتوسطة بعد مواعيد نومها الثابتة بسبب ظرف عصيب مُباغت، كموت أو اختفاء أو مرض أحدهم فجأة. ذلك الهلع والفزع وتوزُّع الأدوار التلقائي بين الساهرين منهم. تشغلني الأجواء المحيطة بتناول وجبة الغداء في مطعم شعبي الساعة ٣ عصرًا بين عمّال بناء وموظفين حكوميين وقت راحتهم. تشغلني الأجواء المحيطة بمشاجرة عنيفة تنشُب بين سائق مواصلة عامة وأحد الركاب بعد خلاف حول قيمة الأجر. تكثيف الاحساس بحياد. ففعلًا لا شئ مهم قبل وبعد تلك اللحظة بأجوائها. لذا أستعين بآخرين لبناء حبكات داخل السيناريوهات التي نفذتها. سأجد صعوبةً أقسى في كتابة الأفلام الطويلة. في الأفلام السابقة كان المخزن الذي أستخرج منه أفلامي هو العلاقة الراكدة بين الذكر والأنثى. عاطفيًا. كان ذلك شاب يمر بفوضى عشرينياته. لذا فور الانتهاء من أصعب مرحلة وهي كتابة «صاجات»، ثم تسليم نسخة السيناريو المكتملة بلا ثغرة، بدأتُ التفكير في تنفيذه بصريًا، دون مراجعة مُتشككة لتيمة الفيلم أو أسلوبه كما أتخيله. بجموح يماثل كتابته.
تأخر إعلان نتيجة التحكيم. كانت الدولة ومواطنيها في حالة انتظار متسارعة وغير منتظمة منذ اندلاع ثورة يناير ٢٠١١، وطوال عامين تلا. كانت جماعة 'الإخوان المسلمين' تشاغب مكتبة الإسكندرية، عن طريق التضييق الرقابي على ميزانيتها، فيما عُرِف في صورته العامة وطرقه المختلفة بمصطلح 'أخونة الدولة'. لم ينجح الأمر مع المكتبة لاعتبارات عديدة. ربما نجح نهم الإسلاميين وقتها في تسريب بعض الطقوس الدينية في الندوات والمعارض والعروض الموسيقية. لكن لم يفلحوا في خلخلة كيان هذه المؤسسة. استمرت أيضًا وتيرة المظاهرات الاحتجاجية ضد مديرها الثابت في موقعه منذ أُنشِأت في مطلع الألفية. والتي كنت قد شاركتُ في واحدة منها في ٢٠١١، ثم توقفت. كان التأخير سببه بلد في حالة حراك وتشاحن عنيف. لا أحد يعرف ما سيجِدُّ في اليوم التالي. سبّب ذلك إحباطًا لدي. ستكون عثرةً ثقيلة لو لم ينفّذ هذا الفيلم، وستكون السنة الثامنة بعد السبع سنوات العُجاب. نجاح الحصول على تمويل من مشروع “بلازا” لا تحتسب قيمته المالية فقط، بل والإعتبارية أيضًا. فالمموِّل يتحمّس للمشاركة في العمل إذا ما أثبتَ له صاحبه أن غيره قد تحمَّس قبله. الشراكة في التمويل هي أولى تدريبات الغواية. هي أصعب وأعقد عمليات البناء. هذا التوقيت كان ثقب النفاذ يبتعد، وفتحة الهروب تضيق.
رغم ذلك التأخير زايدتُ وقتها وقررتُ بشكل نهائي، بعد تفكير مستمر، في مطلع يناير ٢٠١٣، أن أصوّر «صاجات» كله لقطةً واحدة. وحيدة. دون قطع. دون مونتاچ. ولا أعلم زايدتُ على مَن. لكنه التلويح بورقة لعب على منضدة قمار.
خلال نوبة الإحباط تلك كنت قد بدأتُ مواعدة فتاة. ذات ليلة تناولنا معًا عشاءًا في مطعم هندي بالقاهرة. طاقتُها الإيجابية كانت تتحول بعد كل موجة انفعال أثناء حكيها إلى محاولة إعادة ترتيب ملامح وجهها بيدها من فرط السخط. ذات محاولة من تلك، رغبتُ في تقبيلها في التو واللحظة. في المطعم. لم تحدث القبلة. لكنها أوجدت فكرة فيلم قصير جدًا عن قبلة مُفاجئة يتبادلها اثنان في مكان عام، ثم يَتلَقّيا تعنيفًا من النادل أو يواجها استهجانًا من الزبائن. بعد أسبوع كتبتُ التالي لأنفذه فيلمًا:
كان عشاءًا يضم مجموعة تشملهما. متقابلان في جلستيهما حول المنضدة. صديقان حديثان، هو وهي. يتمازحان بعلوقية متحفظة وحذرة. قبل تقديم العشاء أرادت هي في حوار مُشاغب مع أحد الجالسين أن تعيد ترتيب ملامح وجهها. هي تفعل ذلك عادةً في نوبات صخبها؛ تُمسك بوجهها بكفّ يدها للدلالة على عدم تفهُّمها ما يقال، وسخطها على المبدأ في حد ذاته. هذه المرة نهض هو فجأة واعتلى بجزعه المنضدة التي تفصلهما ليمد وجهه ويقبّل شفتيها وسط الجلوس في المطعم. انتهت قبلته وعاد إلى جلسته. أقبل النادل مُسرعًا ليلملم آثار الهتيكة التي حدثت في حضرته. دار هذا الحوار:
  • النادل: حضرتك لازم تمشي فورًا.
  • الشاب: مالوش لازمة التعقيد.
  • النادل: مش مسموح بدا يا فندم.
  • الشاب: عارف. كلنا عارفين إنه مش مسموح لا هنا ولا في مكان تاني.
  • النادل: زباين المكان بيحترموه. حضرتك ماحترمتوش.
  • الشاب (دون أي ابتسام وبملامح وجه تُلقي بيانًا محايدًا): ماكانش ينفع دا يحصلش. أنا وإنت معانا حق. فممكن الموضوع ينتهي عند هنا. مافتكرش دا هايحصل تاني. هنا. لا مني ولا من غيري بعد القلق اللي إنت عملته. حافظ وجهة نظرك وعارف تقاليد المكان. بس ممكن نعدّي اللحظة دي. اللي حصل مش مسموح بيه، بس لو كان مسموح ماكانش هايبقى له لازمة. إنت جيت حذرتني وأنا اتحذرّت، خلاص.
  • النادل (يصمت طويلًا ثم يقول): احنا قدامنا نص ساعة ونقفل، هاجيب لحضرتك الشيك.
انصرف النادل. لكن بجملته تلك لم يعرف الجالسون على هذه المنضدة إذا ما كان قد اقتنع بوجهة نظر الشاب أم لا!
كنت أريد أن أصنع فيلمًا بأيَّةِ طريقة. كتبتُ ما سبق على ظهر ورقة انتزعتها من لوحة تقويم ميلادي مُعلّقة في منزلي. ثم هاتفت الأصدقاء لنصوّره كمشهد. قررت تنفيذه بكل التقنيات التي أنفرُ منها فنيًا. نفّذتُه بكاميرتين. إحداهما يملكها صديق مثّل دورًا في الفيلم، وصوّر بها صديق آخر. والأخرى يملكها صديق ثالث كان هو المصوّر الثاني. الكاميرتان من نوع Canon التي لا أفضل نعومة صورتها. لم أضع تتابعًا مرسومًا للقطات المشهد. كان التصوير عشوائيًا. الكاميرتان أساسيتان. يتبادل المصوِّران التقاط اللقطات البعيدة والقريبة والمتوسطة، بتفاهم مُرتجَل. الاثنان قَدِما يومها من القاهرة خصيصًا للمشاركة. الإضاءة رخيصة، لا تتعدى استخدام مصباح 'هالوچين' مُستورَد من الصين. ثمنه ٢٥ جنيهً (احتفظت به منذ انتهاء تصوير فيلم «ابن البلد - الرحلة»). علّقناه في مكان ثابت طوال اليوم، دون اعتبار لزاوية التصوير. هاتفت صديق وصديقة مرتبطان في واقع حياتهما. وافقا على أداء القبلة في الفيلم. اتفقتُ مع أصدقاء ذوي وجوه مميزة ليؤدوا أدوار أصدقاء الشاب والفتاة، في المطعم. كانت البطلة الرئيسية قد توسطتْ في الحصول على موافقة صديق لها يملك مطعمًا وبارًا فخمًا في وسط الإسكندرية للتصوير عنده مدة ثلاث ساعات. تحمّس الجميع للتجربة. طلبتُ منهم الارتجال أثناء التصوير. رغم أني لا أفضله في التصوير الفعلي أمام الكاميرا. تأجّل يوم التصوير بسبب التهاب الشوارع وقتها بقنابل الغاز التي تطلقها قوات الأمن لتفريق المتظاهرين. كان الأمر بكامله عشوائيًا. فوضى. بعد التصوير وخلال أسبوع كنتُ قد ولّفت لقطات الفيلم في تتابع سريع يتباطئ. يتصاعد من اللقطات القريبة للوجوه والأيدي، ثم لقطات واسعة للجميع يتسامرون حول منضدة في المطعم الفخم. ثم لقطات متوسطة عندما يُقبل النادل لتأنيب الشاب. كان البناء الدرامي لترتيب اللقطات بناءًا كلاسيكيًا بلا تجديد، يهدف لتكوين احساس بسيط وبأبسط الطرق. لم أنفذ ذلك من قبل، ولم أكن أحب مجرد تجريبه بالأساس. صحّحت الألوان في أسبوع آخر. حصلت علي مشهد مدته ٤ دقائق، ينقصه ميكساچ شريط الصوت وعناوين البداية والنهاية. حدث ذلك في منتصف فبراير ٢٠١٣. كانت نتيجة مشروع «بلازا» لا تزال مُبهمة ومتأخرة عند موعدها المحدد في الإعلان.
لم يفلح تنفيذ هذا المشهد العشوائي في إخماد نوبة «صاجات» أو تنظيم حالة التخبط التي كنت أمر بها بعد السبع سنوات العُجاب. قابلت أحمد نبيل في نهاية فبراير ٢٠١٣، أي بعد مرور شهر تأخير عن موعد إعلان نتيجة التحكيم في نهاية يناير. عرفتُ منه أن مشروع “بلازا” نفسه ربما يتعرض للإلغاء. قررت بعد يومين أن أعود إلى دراسة الطب والتقدم إلى امتحانات الكلية القادمة. لا مفر من طوق نجاة ملئ بالثقوب. كان الأمر ثقيلًا، ولا مهرب هناك. مرّ شهرٌ سئ. بلا جدوى سهرتُ ليلتين فقط قبل امتحان الأمراض الباطنية أدخن وأقرأ عن أمراض الكبد. ڤيروسات الكبد، إنزيمات الكبد. أذان الفجر من مُكبّر صوت الجامع أسفل العمارة. كان المحيط كله مُعادي واليأس مُحكم. أتقدم خطوة وأعود أدراجي خطوتين. صباح الامتحان في الأول من إبريل ٢٠١٣ خرجتٍُ من المنزل في سيدي بشر. ركبتُ المايكروباص باتجاه الكلية في منطقة الأزاريطة. وصلتُ إلى محطة البنزين. مرت لحظة خاطفة. عبرتُ الطريق. ركبتُ مايكروباصًا آخر عائدًا باتجاه المنزل مرة أخري. عبث. بهدوء وفي لحظة قرار بالتسليم، وبلا مُراجعة. اللحظة التي يتوقف فيها عن اللعب مدمن قمار أفلس في ليلة خاسرة.
في المنزل نمتُ هاربًا مدة ساعتين، ثم استيقظتُ لأجد إعلان نتيجة مشروع “بلازا” صباح الأول من إبريل ٢٠١٣. تم اختيار سيناريو «صاجات» في المركز الأول. لأول مرة، وكتطور لتجربة “بلازا”، شَمُل إعلان النتائج فقرات تفسيرية كتبها عصام زكريا لشرح أسباب اختيار الأفلام الأربعة. كانت هذه فقرة «صاجات»:
سيناريو شديد الحرفية في بناءه المحكم، والذي يخلو من الثرثرة الفنية أو اللفظية. تتسم شخصياته بالأصالة والغرابة، وحواره شاعري بالرغم من شبهه بالأحاديث اليومية. المزيج الذي يصنعه الاختلاف الثقافي والعمري بين الشخصيات والعلاقات بينهم يصنع حالة ومزاجا متفردا. و"الواقع" الذي يستند إليه الفيلم يتم "فلترته" فنيا وتلوينه عبر خيال وعالم خاص ومختلف.”
ملحوظة: ذلك تمام الفصل الأول “الهروب إلى الأمام”. يتبعُه الفصل الثاني بعنوان «الانتظار سباحةٌ في الداخل» (العنوان مأخُوذ مع تغيير من قصيدة كتبها الشاعر إبراهيم السيد في ديوانه 'أحد عشر كلبًا').