تعثرت
في صورة صلاح أبو سيف ثانيًا ركبتيه على
حافة ترعة، بينما سعاد حسني جالسة أمامه
تتلقى توجيهاته وهي تغسل أواني ألومينيوم.
تمتد
الترعة خلفهما ملتوية نحو اليمين وحتى
آخر نقطة في الصورة.
موقع
التصوير يظهر ممتلئًا بالمجاميع المصطفين
بدوابهم وأدواتهم واكسسواراتهم متراخين
وواثقين في استعدادهم.
كان
ذلك من كواليس تصوير فيلم الزوجة
الثانية (١٩٦٧).
بالنسبة
لي كانت صور كواليس تصوير الأفلام من أهم
أسباب تعلُّقي بالسينما.
عرفت
منها أن السيما كذبة، ثم أن طبيعتها الكذب،
ثم أنها كذبة جميلة.
لطالما
اعتبرت عملية تنفيذ الأفلام هي ثاني أصعب
مهمة في هذا العالم.
لا
يسبقها في القائمة سوى مهمة خلق العالم
نفسه، التي ربما لذلك لم تغفل الكتب
المقدسة توثيق خطواتها بدقة اصطلاحية
وزمنية، سواء فيما خصّ خلق الكون أو
الإنسان.
لم
تغفل كذلك صناعات السينما الأوروبية
واليابانية والأمريكية التوثيق.
غير
أن نشر يوميات صناعة الأفلام المصرية
مكتوبةً يعتبر تقليد نادر الحدوث، تمامًا
كندرة الأفلام التسجيلية التي تصاحب
التنفيذ.
رغم
اهتمام المخرجين، بحكم طبيعة مهمتهم،
بتدوين أدق التفاصيل أثناء العمل.
يأتي
ذلك في غياب مماثل لكتابات تحليلية تتناول
الأفلام.
حاولت
قبلًآ في مدونة إلكترونية اسمها “كيس
فشار”،
على سبيل العرض التقني، الكتابة عن فيلمين
روائيين قصيرين تم تنفيذهما في الإسكندرية.
ويتواصل
السعي لتوسيع الحركة في هامشٍ يتعاظم
الآن لمزاحمة المتن.
توثيق
التجربة في كُتيّب، هو ثاني ثلاثة عناصر
حرصت على تحقيقها في الفيلم الروائي
القصير «صاجات»
(١٨
دقيقة).
يأتي
بعد العنصر الأول وهو تحسين شروط التصوير
للحصول على ما أردته فنيًا، وقبل العنصر
الثالث وهو تسويق الفيلم تجاريًا لتقليل
مشاق التجربة القادمة.
كُتيّب
“الفيلم زمن، أردته مكان” لا يحمل نصائح
يلتزم بها القارئ، ولا محاذير يتوخّاها
إذا ما أراد تنفيذ فيلمه.
ولا
يُعد جزء من مذكرات مخرج يجتر بها سيرته
الذاتية.
هذا
كُتيّب يسرد السيرة الذاتية لفيلم «صاجات»
نفسه،
منذ خُلقت قصته وحتى عرضه الأول.
أتجنب
فيه استخدام الجمل المأثورة لكبار الكتاب
والمخرجين، رغبة في تفادي الكهانة.
وأتفادى
به النمط الملائكي، رغبةً في تجنب الشكل
السائد في الأفلام القصيرة والطويلة.
التجنب
والتفادي كانتا الكلمتين الملازمتين لي
طوال العمل على تنفيذ الفيلم.
تنفيذ
أي فيلم هو رحلة.
رحلة
جماعية، مكلّفة بطبيعتها.
لم
أجد حرجًا لديّ خلالها في التفكير باستخدام
علامة تجارية لتشارك في التمويل
(Cross-promotion).
ولن
أجد حرجًا في المستقبل أن أطبع هذه اليوميات
لتُباع في الأسواق، بل وربما أطلب من صديق
مفتون بألعاب الكمبيوتر أن يصمم لعبة
تعتمد في بنيتها على شكل فيلم «صاجات»
(Tie-in)،
الفيلم مكوّن من لقطة وحيدة على أية حال،
لذا فهو بذلك أقرب للألعاب “الستراتيجية”.
أتفق
مع چوست
سمايرز فيما يذهب إليه في كتابه “الفنون
والآداب تحت ضغط العولمة”، ساخطًا من
الآليات الاحتكارية للتسويق والإنتاج.
غير
أني لا أملك نفس نظرته الحالمة المثالية
لطبيعة الفن.
العمر
قصير وصناعة الأفلام مُجهدة.
لذا
العيش في عالم أفضل ليس ضمن قائمة أهدافي.
يكفيني
الإخلاص لأفكاري والإخلاص لمن أحبهم.
لذا
ربما استخدمت أساليب ملتوية وغير مقبولة
لتنفيذ الأفلام.
ولم
تكن فترة تنفيذ الفيلم سهلة ومستقرة رغم
ذلك، وربما بسبب ما سبق ذكره إلى جانب
أسباب أخرى.
بل
ولجأت للنواح والعويل مرارًا طوال ٢٠١٣،
غضبًا من مُكبّر صوت جامع أسفل شقتي يمنعني
من سماع أفكاري ٥ مرات كل يوم، ومن تمويل
مناسب لا يجئ لفيلم كان تنفيذه كما أريد
بالضبط هو شاغلي الوحيد طيلة عام ونصف
منذ نهاية٢٠١٢.
لذا،
مغامرة الإنتاج والتطور الحادث تقنيًا
ومهنيًا كانا الدافعين الرئيسيين لتسجيل
ما جرى.
فهي
تجربة استمرت أكثر من عام بحثًا عن طرق
تمويل وأساليب إنتاج جديدة.
منذ
فيلمي الروائي القصير الأول في ٢٠٠٦ وحتى
فيلمي الروائي القصير الرابع في ٢٠١٣،
والفارق بين وظائف المنتج والممول والمخرج
غائم.
لكن
مع طموح الهامش لغزو المتن تطوّر تنفيذ
الأفلام وانتعشت التجارب التي نفذها
سكندريون طوال ٣ أعوام مضت.
منذ
٢٠٠٥ وحتى الآن يساعد الجميعُ الجميعَ
بشغف وتجريب.
في
٢٠٠٦ خرجت من غرفتي لأنفذ فيلمي الأول
مخرجًا دون المرور من قاعات تَعلُّم
أكاديمية، ودون سابق خبرة عملية في مواقع
تصوير.
تتباين
علاقتي منذ ذلك الحين بفيلمي الأول.
لكن
الثابت هو أن مسالك معرفتي بالصنعة عن
طريق المشاهدة النهمة والقراءة المستمرة
والملاحظة والتحليل جعلت إهمالي التلقائي
لتصنيفات تسويقية مثل “مستقل”
و”underground”
و”تجاري”
“بديل” وغيرها، سببًا في التجريب المتنوّع
دون قيد ودون مرجعية مُلزمة، كذلك في
التعامل مع المُنتَج بأريحية دون التفات
لسوق التلقي، وهو ما يناسب في رأيي اختفاء
تلك الفوارق الآن من خلال ديموقراطية
ومشاع الفضاء الافتراضي، الذي لا يمكنه
التعسُّف لصالح المتن ضد الهامش.
لكن
محتكروه يفرضون على الدوام ذوقًا فنيًا
كما يؤكد چوست
سمايرز.
يبقى
أن هذه هي المرة الثانية التي أرغب فيها
بإهداء فيلم.
لم
تتحقق الرغبة في مرتها الأولى، لكنها
تتحقق في مرتها الثانية.
فأول
إهداء أكتبه هو لوالديّ، وفي فيلم «صاجات».
والشكر
لكل من ساهم في تمويل وإنتاج وتنفيذ
الفيلم.
No comments:
Post a Comment