Friday, 9 March 2007

ما ينفعش أدامك

الثانية صباحًا أخرج من أحد المقاهي, نهاية هذا الشارع منزلي. الشارع ليس بطويل, مظلم على مسافات متقاربة, على بعد أمتار يظهر أحدهم قادمًا باتجاهي من إحدى تلك الأجزاء المظلمة. الشارع خالي تمامًا. يشير إليّ بأن أقف, ثم يقترب مني فيتخذ هيئة شاب طويل متين البنية, يرتدى كاب, لحيته وشعره طويلان, وسلسلة فضية تتلألأ فى رقبته.

أدرك الآن من هيئته أن التحذيرات التى كنت أسمعها بين الحين والآخر كانت لا تفتقد الصواب, الرجوع ليلاً والمرور بالشوارع المظلمة خطير , أتأهب لصدام وضرب وجروح وسرقة وتهشيم للنظارة وسرقة الهاتف المحمول وما أملك من مال وتجربة ستنتهى بألم, مر هذا الشريط بسرعة.

عيناه زائغتان والحروف تخرج مشوهة مزدحمة من فمه, بفرض أن تلك الفتحة التى تفوح كحولاً هى فتحة فمه, أدرك أكثر حجم المأساه القادمة. أنظر له بثبات, يسألنى:

- انت منين؟

- من هنا.

- مصري وللا صعيدي؟

- مصرى.

- كس أم الصعايدة.

- ليه؟ .. إنت منين؟

رائحة الكحول تهاجمنى من نفس الفتحة بعنف, يتطوح بجذعه فى الإتجاهات الأربعة, تتبدل مواقعنا أثناء الحديث عدة مرات.

- يا عم انت مصري وللا صعيدي؟

- أنا مصري... انت منين؟

- دين أى حد ف البلد دي, لو قابلك حد صعيدي طلع دين اللى جابه (يخرج من جيبه جواز سفر) أنا عرباوي, بص واتأكد.

أفتح جواز السفر, أحمد ابراهيم, مواليد 1982, العراق.

- طب ساكن في يا أحمد؟

- مالكش دعوة .. انت منين؟

- أنا من اسكندرية.

- منين فى اسكندرية؟

- ساكن آخر الشارع .

- أنا هاطلع دين الصعايدة انهاردة.. أنا عرباوي.. (يصافحني) ... عهد مين دا؟... انت مش مصري!! بس كس أم الصعايدة.

- ليه يا عم ... عملوا فيك ايه؟

تزكمى رائحة الكحول أكثر.

- مالكش دعوة... انت اسمك ايه؟

- شريف.

- شريف ايه؟

- شريف زهيرى.

- تصدق بايه؟... أنا هوصلك لحد البيت عشان أثبتلك انى كويس.

- طب انت ساكن فين وأوصلك أنا؟

- ساكن فى محمد نجيب, و أنت ساكن فين؟

- آخر الشارع دا.

- أنا عرباوى يا شريف.. و كس ام الصعايدة.

يستند بيديه على كتفي الأيمن ويتطوح, عيناه تزوغان أكثر, رائحة الكحول تعمينى, أدرك الآن أن الذى فى خطر هو ليس أنا, يمسك بجبهته متألمًا.

- انت جاى منين يا أحمد؟

- مالكش دعوة , دين الناس يا جدع.

- يعنى اصحابك راحوا فين؟

- كس دين الأصحاب يا شريف , تعالى أوصلك البيت.

أخيراً حفظ اسمى. يصر على توصيلي المنزل، أتردد ولكن اصراره بحميمية يدفعني إلى الموافقة.

- بتدخن يا شريف؟

- أيوه بدخن.

يخرج من جيبه علبة سجائر L&M حمراء لن يتبقى بها سوى سيجارة وحيدة و يعطيها لي, أخبره أن معى سجائري وليحتفظ هو بسجارته.

- ولع انت دي وهات لى سيجارة من علبتك أولعها أنا.... انت ساكن فين؟

- قريب من هنا, ريح انت ع العربية دي وبعدين تعالى وصلني لما ترتاح.

بمجرد الإمساك به يتطوح أكثر ويتوه منى أكثر.

- تعرف يا شريف... أنا عايز أعيط.. بس ماينفعش أدامك.

- عيط يا أحمد.

- عايز أعيط.

- طب اركن ع العربية دى و عيط من غير ما تبص لى.

- مش هاينفع.

- ليه؟ ... طب اتحرك معايا.

- لأ انا هوصلك بيتك وبعدين هاروح.

نمشي خطوات, نقترب من عمارة فى طور البناء يحرسها ثلاث حراس صعايدة... يبصق عليهم.

- شايف ولاد الوسخة دول!!

يتوجه أحد حراس العقار إلى بالسؤال:

- فى حاجة يا أستاذ؟

- لأ مفيش.. هو تعبان شوية وهوصله البيت.

- طب لو فى حاجة قول.

- لأ ... الله يخليك, خليك بس واقف جمبنا.

يهز رأسه ثم يمضى بسيجارته نحو العقار، يمر بجوارنا تاكسى, أطلب منه ان يتنحى جانبًا, يسب الدين ثانية ويبصق بصقة أخرى على زجاج التاكسي بمجرد مروره... يتجاهله السائق الخبير بعابري الليل!! نسير قليلاً وهو لا يزال يتطوح ممسكًا بذراعي خشية السقوط, مرهَق وذهنه مشدود, أحس به يود الفكاك من حالة السكر التى يعانيها ولكن لا جدوى, يود البكاء , ينجح لثواني فى استنفار ملامح وجهه ولكن أيضًا تبوء تلك المحاولة بالفشل. مشوش إلى حد بعيد, عنفه لا يجد متنفسًا سوى خلال سب الصعايدة وتمجيد العرباوية... نصل أخيرًا إلى حيث منزلي عند مفترق ثلاث طرق. البقال المجاور لا يزال ساهرًا, يخرج مع عامل لديه على إثر صوت "أحمد". يسألني عن صحتي ثم يسأله عن اسمه, فور أن يشمُّون رائحة فمه يطلبون مني الصعود إلى منزلي وتركه لهم ليتعاملوا معه, فى نفس اللحظة أرى هجومًا باتجاهنا من ثلاث صعايدة تبي مع الوقت أنهم حراس العقار, أصبح الفتى فريسة لا محالة. وسيتم طحنه رغم كل شئ.

أخبروني أنه طيلة ساعتين يطوف الشارع جيئة و ذهابًا, أطلب من البقال والعامل ولثلاث حراس فور وصولهم أن يأتوني بخرطوم لنرش ماءًا على رأس الفتى وليضربوه بعدها. المياه الباردة تنهمر على رأسه, يفيق قليلاً بعد عشر دقائق من الاستحمام. ينظر نحونا بملامح اندهاش أدهشتنى أنا شخصيًا. فور أن يلاحظنا يدفعنا بعيدًا ويجري بكل قوته وهو يصرخ. صرخته تشرخها زفرات بكاء وعويل. يختفى فى الظلام وخلفه عصى ثلاث رجال ولعنتي بقال وتابعه.