هكذا
أفلتَ سيناريو فيلم «صاجات»
من
دفنه في درج المكتب.
وصار
الانغماس السابق في كتابته خطوةً ذات
جدوى.
ها
هي أرض صلبة يمكن أن أنقل عليها قدمي
الأخرى.
أعتبر
تخزين سيناريو في الدرج، في حال لم يجد
طريقه كي يتحرك كأشعة ضوء فوق سطح أبيض،
من أكثر تبعات رفض التمويل إثارة للإحباط.
العيش
مع سيناريو منبوذ في نفس المكان لن يتأتى
منه نفعًا، لا بالنسبة للسيناريو ولا
بالنسبة لكاتبه.
شوكةً
مُوجعة في الحلق.
أما
الاعتياد على هذا التعايش فهو استسلام
صريح يغرسُ الشوكة منطقة أعمق.
هذا
من الأسباب الفرعية التي لاتدفعني لكتابة
سيناريوهات.
فرغم
أن الكتابة هي الخطوة الأولى في المسار
الطبيعي لتكوين فيلم يصلح للعرض، إلا أنه
من خلال تتبُّع مدارس الإنتاج السينمائي
حول العالم قديمًا وحديثًا توقفتُ عند
نموذج هوليوود بالتحديد.
ذلك
النموذج الذي ابتكر لنا شخصية المنتج
(Producer)
بمهامه.
ذلك
الفرد التي يستأجر الجميع كي يخلقوا
فيلمًا.
الفرد
الذي يتحمل عبء البناء.
أن
أصلَ إلى فيلم بعد أن تكون شركة الإنتاج
قد أتمّت خطوته الأولى واشترت السيناريو
ثم وجدَتْني الأصلح لتنفيذه، أو العمل عليه،
كما هو مشروع، هو النموذج المناسب لي في
صناعة الأفلام.
ما
يلي ذلك هو محض لعبة تفاوُض ومواجهة بين
أطراف، وهي العملية الأمتع من التلويح
بسيف في هوائك الخاص.
التعاقد
طويل الأمد به من الأمان ما يغريني كمخرج.
أما
ما حدث قبلًا (وسيستمر
في الحدوث)
هو
العدو وحيدًا في العراء بحثًا عن مظلة
تمويل.
حالة
ما قبل وصول المال تماثل اشتهاء سمك لا
زال تحت الماء.
أخبرني
ذلك الأديب الذي جالسته قبل أعوام بخصوص
تحويل روايته فيلمًا.
تتداخل
مدارس وطرق إنتاج الأفلام، وتتنوّع
احتمالاتها المفتوحة داخل متلازمة أساسية:
قصة
– مال -
طاقم
عمل، على الترتيب.
عند
هذه النقطة، وبالعودة إلى نموذج إنتاجات
هوليوود، كانت الأزمة التي مرتْ بها في
بداية الخمسينيات من القرن العشرين سببًا
للجوء شركاتها الكبرى وقتذاك في تصوير
بعض أفلامها إلى السفر نحو دول شرق أوروبا،
لرخص الأجور والمصروفات ولتجديد دماء
شكل مواقع التصوير، وأيضًا للهرب من وطأة
الضرائب المفروضة على أرباحها داخل
الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن
احتجاجات النقابيين الأمريكيين في تلك
الفترة.
مخرجو
السينما الشباب في تلك الدول الاشتراكية
استفادوا من تواجد معدات هوليوود الحديثة.
صوَّروا
بها أفلامًا تخصهم في أيام توقف التصوير
الأساسي.
تدربوا
عليها بشكل عملي.
منهم
من صنع بها أفلام تخرجه من معاهد الدراسة.
استخدموا
الخام والكاميرات ومعدات الإضاءة ليسجِّلوا
بها قصصهم التجريبية التلقائية العابثة.
تلك
قصة أتذكرها دومًا لضخ الحماس وطرد اليأس.
فكل
الاحتمالات فعلًا مفتوحة.
في
٢٠٠٩ كان لدي سيناريو فيلم روائي قصير
اسمه «عنف
وفوضى».
كتبته
قبل سيناريو «أشياء
مُشابهة».
سيناريو
مُُكتمل وخطة تنفيذه الأساسية واضحة.
بطلته
الأساسية أوروبية أو أمريكية، طبقًا
لعلاقة الشخصيتين الأساسيتين داخل القصة.
رسمتُ
لقطات الفيلم واخترتُ بعد بحث شاق مكان
التصوير المناسب، وعثرتُ بعد عناء على
فتاة بلچيكية وافقت على أداء الدور بكل
ما فيه من جرأة في تصوير مشهد الجنس
بتعقيده.
كنتُ
أعدُّ ذلك كله في نفس توقيت الإعداد لفيلم
المكتبة.
وكنتُ
أهدف تصوير يوم من يومي تصوير «عنف
وفوضى»
بعد
الانتهاء من تصوير لقطات «أشياء
مُشابهة».
وبكلمة
'بعد'
أعني
بعده بالفعل، وبقسوة.
أي
أن تتحرك المعدات التي استأجرتها من
مكانها في ساحة بلازا المكتبة إلى الشقة
التي سنصوِّر بها «عنف
وفوضى».
وصورت
منه لقطتين بالفعل.
وبطاقم
عمل مختلف كليةً (عدا
الفنيين والعمال الذين انتقلوا معنا دون
أن يفهموا الرابط بين ما صورناه نهارًا
وما نحن مقدمون على تصويره الآن في مكان
مختلف وبممثلين مختلفين).
بعد
هاتين اللقطتين أوقفت التصوير فجأة وشكرتُ
الجميع بابتسامة جادة.
دفعتُ
أجور العمال والمعدات (قيمة
يومِ واحد كما اتفقنا).
ثم
رافقتُ الفتاة البلچيكية حيث غرفة فندقها،
وعدت لأنام في بيتي دون مراجعة لأي شئ.
هكذا
لم تنجح التجربة بعد ارهاق يوم تصوير
خارجي بالكامل، محسوبة تفاصيله بدقة.
لكني
لا زلت أحتفظ باللقطتين التي صورناهما
من الفيلم الذي اتخذ هو نفسه منحنًا
مختلفًا بعدها بأعوام.
هكذا
يظل الحصول على تمويل لتنفيذ أي سيناريو
هو صخرة السينمائي التي يحملها فوق ظهره.
ولأني
أطبع جميع مسودات السيناريو بتطوراتها
لأحتفظ بها في كل فيلم، وصولًا إلى النسخة
النهائية منه، كان فشل الحصول على تمويل
مشروع 'بلازا'
٢٠١٣
يعني تحنيط السيناريو في أحد الأدراج،
والجلوس على تل الخراب عامًا آخر وسط
مسوَّدات لن تهتم.
بعد
إعلان النتيجة بأسبوع، حدَّدَ أحمد نبيل
موعدًا معي لمقابلة عصام زكريا ومناقشة
الخطوط العامة لطريقة وأسلوب تنفيذ
الفيلم.
بعدها
بأسبوع آخر التقيتُ أحمد نبيل نفسه في
موعد جديد لمناقشة بنود التعاقد وتوقيت
صرف دفعات التمويل والجدول الزمني للإنتهاء
من الفيلم.
في
٢٢ إبريل ٢٠١٣ وقّعتُ ورقة التعاقد، الذي
تفيد بنوده، بوضوح، أن مركز الفنون بمكتبة
الإسكندرية كطرف أول هو مموّل الفيلم
الذي يجب الاستئذان منه والحصول على
موافقته قبل أي عرض عام للفيلم بعد انتهائه.
وأنه
على مخرج الفيلم كطرف ثاني أن يلتزم
بالتاريخ المقرر لعرض فيلمه في الحدث
السنوي الثابت المحدد سلفًا لعروض مشروع
'بلازا'.
بين
توقيع العقد وعرض الفيلم، يجب أن يُحسن
المخرج اتخاذ قراراته الإنتاجية (وذلك
لم يكن منصوصًا عليه في التعاقد).
بطبيعة
العادة في فيلمين سابقين، لم يكن مطروحًا
في خطتي أن أستقدم منتجًا يدير إنتاج
الفيلم وأتفرُّغ أنا لإخراجه.
لم
يحدث ذلك لي سوى في فيلم وحيد سابق هو
«الرحلة
– ابن البلد».
كان
منتجه هو المسئول الأول عن التنفيذ،
ابتداءًا باستقدامه المخرج وحتى تسليمه
نسخة الفيلم النهائية إلى الجهة المُموِّلة
(نموذج
الإنتاج المناسب لي).
ولحسن
الحظ كان شخص المنتج حينها شفافًا وواضحًا
في مهمته وتعاملاته.
لذا
كانت الملحوظة الأهم التي ركز عليها كلٍّ
من عصام زكريا وأحمد نبيل بخصوص تنفيذ
«صاجات»
هي
أن تنفيذ المكتوب بسبعة عشر ألف جنيه فقط
غير ممكن بأي حال من الأحوال.
لم
أكن قد أفقتُ وقتها من مرحلة استرخاء
الجفون التي دلفتُ إليها بسقوط لذيذ بعد
فترة الفنجلة الطويلة والمتوترة التي
سبقت إعلان النتيجة.
أرخيتُ
جفوني بعد إعلان نتيجة مشروع 'بلازا'،
محتفظًا بنفسي في تلك المنطقة بين الوعي
واللا وعي، كي أتمكّن من الانتهاء من فيلم
«صاجات»
داخلي
أولًا.
لذا
خلال ٣ أسابيع، بين إعلان النتيجة وتوقيع
العقد، أمضيتُ وقتي في التقاط الأنفاس.
فمن
ضمن خبرات ممارسة كرة القدم يأتي أيضًا
تعلُّم قيمة توزيع المجهود على امتداد
زمن المباراة كعنصر مهم.
تنفيذ
الأفلام مُجهِد، نفسيًا وذهنيًا وبدنيًا.
وأنا
مُنهك بعد ٧ سنوات استنزاف لاهيًا لا
أعبأ.
بعد
توقيع العقد تمنّى لي أحمد نبيل التوفيق
فيما هو آت، وناقشتُه فيما يخصّ أفراد
طاقم العمل المتاحين في اسكندرية لتصوير
الفيلم.
اقترح
علّي وأعطاني رقم هاتف أحمد زيان مديرًا
لإنتاج الفيلم (Line
Producer)،
لقدرته على استخراج تصاريح بالتصوير من
الجهات الحكومية المُختصّة، خاصةً بعد
نجاحه بشكل مميز، كما أخبرني نبيل، في
استخراج تصريح رسمي بالتصوير في منطقة
عسكرية لفيلم سابق من أفلام مشروع 'بلازا'
العام
الماضي.
تظل
مهمة مدير الإنتاج هي المهمة المفصلية
لتمام رؤية المخرج في فيلمه.
هو
عمود الخيمة الذي ستلجأ إليه كل الأطراف
لحل مشكلاتها وإيجاد البدائل والحلول
الصغيرة طوال رحلة تنفيذ الفيلم.
هو
رجل الساحة، مارشال مواقع التصوير.
يجب
أن تشعر بوجوده وتراه في مجالك البصري
باستمرار، دون أن يُسمعَك صوته.
فقط
يسمعكَ هو ثم يفكّر ويدبّر وينفّذ.
قمت
بإدارة إنتاج فيلمي «أشياء
مُشابهة»
في
٢٠٠٩، وقمت بذلك أيضًا في فيلم لمخرج آخر
صديق في ٢٠١٠.
المهام
المتنوعة في منطقة إنتاج الأفلام هي مهام
حربية في تقنياتها.
ويمكن
تمييزها كرتبٍ عسكرية.
طفلًا،
وعلى خشبة مسرح مدرستي الابتدائي، أدّيتُ
دور وزير بإحدى الممالك الخيالية.
وزير
خبيث وشرير يُسيئ نصح الملك بهدف الحصول
على مكاسب شخصية تخصه، ربما تولِّي حكم
المملكة نفسها.
لا
أتذكر.
كانت
المملكة تنهار ورعايا الملك غاضبون
والمشاكل تتصاعد.
لكني
كوزير، عند استجارة الملك بي في نهاية
الفصلين الأولين، كنتُ ألفُّ ذراعي حول
رقبته وأصحبه خارج خشبة المسرح قائلًا:
“انتظر.
عندي
خطة.”
تلك
جملتي الأثيرة منذ حينها.
وأتذكر
نصها جيدًا.
“انتظر.
عندي
خطة.”
ربما
وسمتْ تلك الجملة حياتي حتى الآن.
كمنتج
وكمخرج لفيلم «صاجات»
قسّمتُ
مهام تنفيذ الفيلم ثلاثًا:
- أمام الكاميرا:مواقع التصوير.الديكورات والملابس والاكسسوارات.ملامح الممثلين وأسلوب أدائهم.حركة الكاميرا.مواصفات الصورة.
- خلف الكاميرا:أجور طاقم الفيلم.المعدات المناسبة.توثيق تجربة إعداد الفيلم وتصويره في فيلم تسجيلي.